فيلم "هم الكلاب" .. باديدا يكشف لكم كازابلانكا
هذا عمل سينمائي يستحق وقفة تتجاوز الملاحظات الانطباعية.
لماذا؟
لأن هشام العسري يحتل موقعا متقدما في سلم الجرأة الفنية، وقد تجاوز نواقص فيلمه الأول.
فيلم مغربي حقيقي، أبدعه هشام العسري وحسن باديدا. حرر فيه المخرج الكاميرا، حرر اللغة السينمائية ولكن لم يحرر السرد، جعله خطيا لكي لا يفقد المتفرج. يحكي العسري قصة متعددة الطبقات. السيناريو صلب. تتعدد مستويات الحكي. وقد وضع العسري الفيلم في قلب المرحلة التاريخية: الدليل؟ الربيع وعشرين فبراير واللاجؤون الافارقة...
رغم الكثافة تجري قصة "هم الكلاب" في ثمانية وأربعين ساعة لذا كان الإيقاع مرتفعا والمحتوى مؤثرا. وهذا خلاف أفلام أخرى عرضت في طنجة، تاه كتابها في زمن طويل. النتيجة هي أفلام مفككة حاولت سرد قصة مدتها أربعين سنة. قصص مليئة بالثقوب التي فشل الفلاش باك في تغطيتها.
أفيش الفيلم معبر:
ظهر الرجل المجهول للجمهور ووجهه للأفق، يحمل قارورة وعجلة. خرج يبحث عن عجلة لدراجة ابنه المائلة. عجلة تدور وتصدر أزيزا يذكر ببداية فيلم سيرجيو ليون "كان ذات يوم في الغرب". بعد مرور ساعة غرق المتفرج في اللحظة ونسي النهاية.
في ساحة شهيرة في قلب الدار البيضاء، يتجمع عشرات الشباب يرفعون شعارات تندد بالغلاء والفساد ويطالبون بالتغيير وإسقاط النظام... يصل مراسل تلفزيوني ميداني لينجز ريبورتاجا عن الشباب الثائر. يسأل المراسل بعض الواقفين في الساحة: لماذا أنت هنا؟ ما رأيك في "حركة عشرين فبراير"؟
من اللحظة الأولى يكتشف سطحية الأجوبة وتشابهها. حينها يدرك أن ما يصوره لن يتجاوز ما هو سائد ومستهلك في الإعلام. يرفض المراسل أن يخضع لطلب القناة وهو العودة بفيديو مدته دقيقة ونصف كل يوم من الشارع واعتبار ذلك استقصاء للواقع ونقلا للحقيقة.
في غمرة وجع التكرار في مهنته ينتبه المراسل لخصوصية كهل مشرد في الساحة. يسأله عن اسمه فيذكر رقم 404. يعيش الكهل اللحظة بشكل مختلف. يتحدث بدقة عن إضراب الدار البيضاء سنة 1981. الزمن توقف هناك بالنسبة له. حينها رأى الرصاص والجثث ووجد نفسه مع آخرين في حوض سباحة جاف ورجُل امن يستمتع بعطشهم، يرشهم بالماء ويملئون أحذيتهم ليشربوا أما المعتقلين الذين اعتقلوا حفاة فلا يشربون...
يقرر المراسل تجاهل تعليمات هيئة تحرير القناة ويتبع الكهل في هلوساته...
هكذا يربط هشام العسري في فيلمه "هم الكلاب" بين 1981 و2011. بين إضراب الدار البيضاء الدموي ونشأة حركة 20 فبراير 2011. ترصد الكاميرا السياسية للمخرج الشاب اللحظة التاريخية. في مشاهدتي الأولى لهذه الفيلم الغني سوسيولوجيا تتبعت الكهل النكرة، في المشاهدة الثانية تتبعت الفضاءات التي يمر بها ومدى تفكير المراسل في مهنته.
الكهل 404 ليس بطلا، بل هو نقيض البطل التقليدي، إنسان مقهور تجرأ على الحلم فتوقف وعيه مع الصدمة. لا يتجشم عناء الوسامة لكنه فاضح للخبايا بأسئلته المغموسة بالبلاهة. منذ سنوات يسأل عن هويته وأولاده ولم يأخذه احد على محمل الجد، إلى أن ترك المراسل سطحية الجماعة الشابة وتعقب عمق الكهل الذي يحمل على كتفيه تاريخا مريرا... أدى الممثل الكبير حسن باديدا الدور بتلقائية وبراعة وقد توج بجائزة أحسن أداء رجال في الدورة الخامسة عشرة للمهرجان الوطني للفيلم.
لقد صممت فترة سبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي وعي جيل كامل من المغاربة. فقد شهدت المرحلة ميلاد حلم التغيير وإجهاضه. مرحلة تراجيدية سيمتد مفعولها في الوعي. شخصيا تأثرت بالمدرسين الذين عاشوا المرحلة ولقحوا تلامذتهم بوعي شقي.
لهذا ربط فيلم "هم الكلاب" بين 1981 و2011. فخلال ثلاثين سنة لم يفتر أمل المغاربة في غد أفضل... وقد قدم الممثل حسن باديدا أداء هو مزيج من اليأس والأمل، فهو يبحث عن ذاته لكنه واثق أنهم هم الكلاب لا نحن... وهذا وضع يتماهى معه المتفرج اليائس، والذي ينظر للشبان المحتجين في الشارع بشك، لكن يأمل أن يحققوا له معجزة...
هل ستحدث المعجزة؟
لا يقدم المخرج جوابا، لكنه يأخذنا في رحلة أخرى وهو يطارد الكهل. فالمطاردة ليست موضوع الفيلم بل أسلوب المخرج أيضا. فهو في مطاردته للرجل يسمح لنا برحلة في الدار البيضاء من الواجهة المضاءة اللامعة إلى الخلفية. تقوم الكاميرا بمسح للمجتمع وللمدينة. نكتشف فضاءات عشوائية بشكل رهيب، فيها تلوث صوتي، شاطيء فيه مزبلة ويصب فيه مجرى صرف صحي وتلعب فيه مآت الكلاب. يقف الكهل ليبول على جدار كتب عليه "ممنوع البول هنا يا حمار". يبول.
نكتشف خراب المدينة التي خصصت ملايير لإصلاحها، ومن باب السخرية المريرة شكك صحفي إذاعي في هذا وتمنى لو وزع المبلغ على السكان ليصلح كل واحد أمام بيته. وهكذا ستصلح كل شوارع كازابلانكا بسرعة وستبقى بعض الملايين.
نكتشف عنف الشوارع. تندلع نزاعات لفظية بين فردين، تتخللها كلمات ساقطة فيصير النزاع يدويا يتدخل فيه آخرون فيصير كارثة. خلاف صغير عن ركن سيارة يستدعي اقتتالا بين أفراد الشعب.
غضب غضب. الغضب الذي لا يأخذ شكلا سياسيا عقلانيا يصير مدمرا. غضب لا يتخذ شكلا سياسيا بسبب الجهل. يصعب قبول وصف أفراد الشعب بالجهل لكن تلك هي الكلمة المناسبة. هذا البشر الخام لن ينجز لا ثورة ولا تغيير.
يسأل المراسل العاهرة التي التقطها من علبة لبل: ما رأيك في حركة عشرين فبراير؟
أجابت: إنها مثل البقرة المجنونة.
إنها خلفية الثوار. مجتمع يتناحر افراده لن يحقق ثورة. حال النخبة ليس أفضل. هذا ما نكتشفه حين يقصد الكهل صديقا قديما صار صحفيا ليسأله عن هويته وأولاده. يدخل مقر الجريدة وتقوده السكرتيرة إلى مكتب الصديق. في الممر الطويل يضع المخرج الكاميرا على مستوى ارتفاع مؤخرة السكرتيرة الضخمة، وهذا تعبير عن دور ومكانة هذا العضو المبجل في الإعلام. في اللقاء يسأل الكهل صديقه:
"هل صحيح قلبت المعطف"
هذا هو الخط الثالث في هذه المقاربة السوسيولوجية للفيلم. وفيها نتعرف على وضع الإعلام ودوره. فالمراسل التلفزيوني يطارد موضوعه ولا يحصل عليه جاهزا. وهو يبحث عن تجاوز التغطية السطحية للحظة. يدرك أن المادة الإخبارية الجاهزة ملغومة وأن المواضع المهمة ليست معطاة...
يقدم الفيلم شريطا صوتيا منقولا عن القنوات الفضائية. ويخبرنا الشريط عن احتجاج الشعوب وتبديل الحكومات ثم سقوط رؤوس الأنظمة... وهذا ما يضع الفيلم في سياق سياسي عام. الغريب أن كثافة الصور والخطابات التي تتدفق على المتفرج تصير من فرط الكثرة معرقلة للفهم بدل أن تساعد عليه. لا يميز المتلقي الحقيقة والتضليل. لا يعرف هل يتفاءل أم يخاف.
الجديد في كل هذا هو أن السياسة استرجعت وزنها في الثلاث سنوات الأخيرة. لقد انتقمت السياسة بعد تعويمها لسنوات بالرياضة والفتاوي والمسلسلات المكسيكية والتركية... والسياسة وحدها تساعد الكهل في مساره. ففي لحظة تعب من البحث عن هوية الكهل 404 يستنجد مساعد المراسل بأحد معارفه في وزارة الداخلية. وبسرعة ترد أم الوزارات التي تملك أم الحقائق.
هكذا يقدم فيلم "هم الكلاب" سينما سياسية فاضحة، ساخرة، حتى أني صرخت في منتصف الفيلم: يا إلهي لقد عثر هشام العسري على الوصفة التي تجمع الأسلبة الفنية الراقية مع المزاج الشعبي الكوميدي، الذي يضحك حتى من مصائبه".
بعد نهاية عرض الفيلم في طنجة سألت مناضلا قديما: هل تتوقع من مخرج غير مثقف فيلما جيدا؟
أجاب: لا.
فحص الفرحة في عيني ثم صحح لي: وقد يكون المخرج مثقفا ويكثر الكلام ولا يكون فيلمه جيدا.
قلت: طيب ها قد أزلنا ثلاثة أرباع المخرجين.
قال بدهشة: احتفظت بالربع. أنت كثير التفاؤل.
لماذا؟
أجاب: لأن امتلاك ثقافة شيء والقدرة على الحكي شيء آخر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق